فصل: فَصْلٌ: استقبال القبلة بالفرج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ) العبث في الصلاة:

(وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِجَسَدِهِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، وَذَكَرَ مِنْهَا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ الْعَبَثَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ فَمَا ظَنُّك فِي الصَّلَاةِ (وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى) لِأَنَّهُ نَوْعُ عَبَثٍ (إلَّا أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ السُّجُودِ فَيُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَرَّةً يَا أَبَا ذَرٍّ وَإِلَّا فَذَرْ» وَلِأَنَّ فِيهِ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ).
قولهُ: (أَنْ يَعْبَثَ) الْعَبَثُ الْفِعْلُ لِغَرَضٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَلَوْ كَانَ لِنَفْعٍ كَسَلْتِ الْعَرَقِ عَنْ وَجْهِهِ أَوْ التُّرَابِ فَلَيْسَ بِهِ.
قولهُ: (وَعَدَّ مِنْهَا الْعَبَثَ) وَهُوَ أَوَّلُهَا، ثُمَّ قَالَ: «وَالرَّفَثُ فِي الصِّيَامِ وَالضَّحِكُ عَلَى الْمَقَابِرِ»، رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُرْسَلًا.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ») غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْه: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فَقَالَ: وَاحِدَةً أَوْ دَعْ» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ مُعَيْقِيبٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَا تَمْسَحْ الْحَصَى وَأَنْتَ تُصَلِّي فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً». (وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعُكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي».
الشَّرْحُ:
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَرْقَعَةِ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ». وَهُوَ مَعْلُولٌ بِالْحَارِثِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَتَخَصَّرُ) وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ.
الشَّرْحُ:
وَحَدِيثُ التَّخَصُّرِ أَخْرَجُوهُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا» وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ» وَفِي الِاخْتِصَارِ تَأْوِيلَاتٌ أَْهُرُهَا مَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَهُوَ مَا فِي الْكِتَابِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي أَبِي دَاوُد وَمُفَسَّرٌ فِيهِ.
وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْمُغْرِبِ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَصْرِ وَهُوَ الْمُسْتَدَقُّ فَوْقَ الْوَرِكِ، أَوْ عَلَى الْخَاصِرَةِ وَهُوَ مَا فَوْقَ الطَّفْطَفَةِ وَالشَّرَاسِيفِ. وَالطَّفْطَفَةُ أَطْرَافُ الْخَاصِرَةِ، وَالشَّرَاسِيفُ أَطْرَافُ الضِّلْعِ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الْبَطْنِ انْتَهَى. وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ مُتَّكِئًا عَلَى عَصًا، وَقِيلَ أَنْ لَا يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَقِيلَ أَنْ يَخْتَصِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَلْتَفِتُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ» (وَلَوْ نَظَرَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلَاتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ.
الشَّرْحُ:
وَحَدِيثُ الِالْتِفَاتِ غَرِيبٌ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَفِيهِ أَلْفَاظٌ أَقْرَبُهَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ كَعْبٍ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَقُومُ مُصَلِّيًا إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُنَادِي: يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ تَعْلَمُ مَا فِي صَلَاتِكَ مَنْ تُنَاجِي مَا الْتَفَتَّ». وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» وَالْحَقُّ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يَلْوِيَ عُنُقَهُ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ مُوَاجِهَةِ الْقِبْلَة. وَلَوْ انْحَرَفَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَسَدَتْ فَبَعْضُهُ يُكْرَهُ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يُفْسِدُ فَالْقَلِيلُ يُكْرَهُ، وَحَدِيثُ مُلَاحَظَتِهِ أَصْحَابَهُ إلَخْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْحَظُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ: يَعْنِي طَرِيقَ التِّرْمِذِيِّ انْتَهَى. لَكِنْ قَدْ ظَهَرَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُقْعِي وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) لِقول أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ، وَأَنْ أُقْعِيَ إقْعَاءَ الْكَلْبِ، وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ». وَالْإِقْعَاءُ: أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ رُكْبَتَيْهِ نَصْبًا هُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
وَحَدِيثُ الْإِقْعَاءِ وَالِافْتِرَاشِ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ» وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ تَعْنِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ وَأَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَعُقْبَةُ الشَّيْطَانِ الْإِقْعَاءُ. وَأَمَّا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ طَاوُسٍ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ فَقُلْنَا لَهُ إنَّا نَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ، فَقَالَ بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْعُونَ، فَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ عَنْهُمْ أَنَّ الْإِقْعَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُسْتَحَبٌّ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَكِبَتَاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْعَبَادِلَةِ، وَالْمَنْهِيُّ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ وَيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قول الْكَرْخِيِّ أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَيْهِ كَمَا فِي السُّجُودِ وَيَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِبَيْهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ صِفَةُ إقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَقولهُ هُوَ الصَّحِيحُ: أَيْ كَوْنُ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ لَا أَنَّ مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا.

متن الهداية:
(وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ) لِأَنَّهُ كَلَامٌ (وَلَا بِيَدِهِ) لِأَنَّهُ سَلَامٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بِيَدِهِ) قَالَ شَارِحُ الْكَنْزِ إنَّهُ بِالْإِشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ.
وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: الْآخَرُ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكِتَابِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَذْكُورَ هُنَا: قُلْت أَجَازَ الْبَاقُونَ رَدَّ السَّلَامِ بِالْإِشَارَةِ. وَلَنَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَشَارَ فِي الصَّلَاةِ إشَارَةً تُفْهَمُ أَوْ تُفْقَهُ فَقَدْ قَطَعَ الصَّلَاةَ» وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَبَا غَطَفَانَ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، وَيُقَالُ ابْنُ مَالِكٍ الْمُرِّيُّ وَثَّقَهُ ابْن مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ. وَمَا عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ لَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد: أَبُو غَطَفَانَ مَجْهُولٌ لَا يُقْبَلُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ ثِقَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ وَقَدَّمْنَاهُ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ. ثُمَّ أَخْرَجَ لِلْخَصْمِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ قال: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلِيَّ إشَارَةً»، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَعِدَّةُ أَحَادِيثَ تُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وَالْجَوَابُ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْإِشَارَةِ. وَلَنَا أَنْ لَا نَقول بِهِ، فَإِنَّ مَا فِي الْغَايَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ وَصَاحِبِ الْمُحِيطِ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ الْمُصَلِّي وَيُجِيبَ هُوَ بِرَأْسِهِ يُفِيدُ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ رَفْعًا لِلْخِلَافِ فَالْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهَا لِمَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّشْتِيتِ وَالشُّغْلِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَيِّدٌ عَنْ أَنْ يَتَأَثَّرَ عَنْ ذَلِكَ فَلِذَا مُنِعَ، وَفِعْلُهُ هُوَ لَوْ تَعَارَضَا قُدِّمَ الْمَانِعُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: سَلَّمَ عَلَى الْمُصَلِّي فَأَشَارَ بِرَدِّ السَّلَامِ بِرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ بِلَا أَوْ بِنَعَمْ أَوْ سُئِلَ كَمْ صَلَّيْت فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَهُ لَا تَفْسُدُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَتَرَبَّعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْقُعُودِ (وَلَا يَعْقِصُ شَعْرَهُ) وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ عَلَى هَامَتِهِ وَيَشُدَّهُ بِخَيْطٍ أَوْ بِصَمْغٍ لِيَتَلَبَّدَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ مَعْقُوصٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةَ الْقُعُودِ) أَيْ سُنِّيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ لَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ كَمَا عُلِّلَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جُلُّ قُعُودِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَصْحَابِهِ التَّرَبُّعَ وَكَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قولهُ: (وَيَشُدّهُ) أَيْ مِنْ وَرَائِهِ بِخَيْطٍ أَوْ يَشُدّ طَرَفَيْهِ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ يُلَبِّدَهُ كَمَا ذَكَرَ.
قولهُ: (فَإِنَّهُ رُوِيَ إلَخْ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُخَوَّلِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِهِ. وَوَضَعَ مَكَانَ رَجُلٍ سَعِيدَ الْمَقْبُرِيَّ، وَقَالَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ بِهِ سَنَدًا وَمُتْنَا، زَادَ: قَالَ إِسْحَاقُ قُلْت لِلْمُؤَمَّلِ أَفِيه أُمُّ سَلَمَةَ، قَالَ بِلَا شَكٍّ. وَحَكَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِوَهْمِ الْمُؤَمَّلِ فِي ذِكْرِهَا. وَرُوِيَ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ بِقِصَّةٍ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ وَأَنْ لَا أَكُفَّ شَعَرًا وَلَا ثَوْبًا» وَفِي الْعَقْصِ كَفُّهُ، وَيَتَضَمَّنُ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمُصَلِّي مُشَمِّرًا كُمَّيْهِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَكُفُّ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ تَجَبُّرٍ (وَلَا يُسْدِلُ ثَوْبَهُ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ السَّدْلِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَتِفَيْهِ ثُمَّ يُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّدْلِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
قولهُ: (وَهُوَ أَنْ يَضَعَ إلَخْ) يَصْدُقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمِنْدِيلُ مُرْسَلًا مِنْ كَتِفَيْهِ كَمَا يَعْتَادُهُ كَثِيرٌ فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلَى عُنُقِهِ مِنْدِيلٌ أَنْ يَضَعَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى لُبْسِ الْقَبَاءِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ كُمَّيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْكَرَاهَةِ فِيهِ. وَيُكْرَهُ اشْتِمَالُهُ الصَّمَّاءَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ رَأْسَهُ وَسَائِرَ بَدَنِهِ وَلَا يَدَعَ مَنْفَذًا لِيَدِهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِزَارِ مَعَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ وَغَيْرُهُ لَا يَشْتَرِطُهُ. وَيُكْرَهُ الِاعْتِجَارُ أَنْ يَلُفَّ الْعِمَامَةَ حَوْلَ رَأْسِهِ وَيَدَعَ وَسَطَهَا كَمَا تَفْعَلُهُ الدَّعَرَةُ وَمُتَوَشِّحًا لَا يُكْرَهُ.
وَفِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ بَعْضُهُ يُكْرَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ.

متن الهداية:
(وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَحَالَةُ الصَّلَاةِ مُذَّكِرَةٌ) فَلَا يَكُونُ الْأَكْلُ فِيهَا نَاسِيًا كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً. ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْفَسَادُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمُ عُزِيَ إلَى غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِأَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ، أَمَّا مِنْ خَارِجٍ فَلَوْ أَدْخَلَ سِمْسِمَةً فَابْتَلَعَهَا تَفْسُدُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُ سَكَرَةٍ فِي فِيهِ فَذَابَتْ فَدَخَلَ حَلْقَهُ فَسَدَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَيْنُهَا بَلْ صَلَّى عَلَى أَثَرِ ابْتِلَاعِهَا فَوَجَدَ الْحَلَاوَةَ لَا تَفْسُدُ، وَلَوْ لَاكَ هِلِيلِجَةً فَسَدَتْ كَمَضْغِ الْعِلْكِ، وَلَوْ لَمْ يَلُكْهَا لَكِنْ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ مِنْهُ شَيْء يَسِيرٌ لَا تَفْسُدُ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَكَلَ بَعْضَ اللُّقْمَةِ وَبَقِيَ فِي فِيهِ بَعْضُهَا فَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَابْتَلَعَهُ لَا تَفْسُدُ مَا لَمْ تَكُنْ مِلْءَ الْفَمِ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَسُجُودُهُ فِي الطَّاقِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ فِي الطَّاقِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَنِيعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ تَخْصِيصِ الْإِمَامِ بِالْمَكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سُجُودُهُ فِي الطَّاقِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الدُّكَّانِ) لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْإِمَامِ (وَلَا بَاسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ إلَى ظَهْرِ رَجُلٍ قَاعِدٍ يَتَحَدَّثُ) لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ أَوْ سَيْفٌ مُعَلَّقٌ) لِأَنَّهُمَا لَا يُعْبَدَانِ، وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فِي الطَّاقِ) أَيْ الْمِحْرَابِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ: كَوْنُهُ يَصِيرُ مُمْتَازًا عَنْهُمْ، وَكَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ حَالُهُ حَتَّى إذَا كَانَ بِجَنَبَتَيْ الطَّاقِ عَمُودَانِ وَرَاءَهُمَا فُرْجَتَانِ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَهْلُ الْجِهَتَيْنِ عَلَى حَالِهِ لَا يُكْرَه، وَإِنَّمَا هَذَا بِالْعِرَاقِ لِأَنَّ مَحَارِيبَهُمْ مُجَوَّفَةٌ مُطَوَّقَةٌ، فَمَنْ اخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَمَنْ اخْتَارَ الْأُولَى يُكْرَهُ عِنْدَهُ مُطْلَقًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ امْتِيَازَ الْإِمَامِ مُقَرَّرٌ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْمَكَانِ حَتَّى كَانَ التَّقَدُّمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَغَايَةُ مَا هُنَا كَوْنُهُ فِي خُصُوصِ مَكَان، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ بُنِيَ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَحَارِيبُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ تُبْنَ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مُحَاذَاةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ يُحَاذِي وَسَطَ الصَّفِّ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، إذْ قِيَامُهُ فِي غَيْرِ مُحَاذَاتِهِ مَكْرُوهٌ، وَغَايَتُهُ اتِّفَاقُ الْمِلَّتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. وَلَا بِدَعَ فِيهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا يَخُصُّونَ الْإِمَامَ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا تَشَبُّهَ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سُجُودَهُ فِي الطَّاقِ) أَيْ وَرِجْلَاهُ خَارِجَهَا فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْقَدَمِ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ حَتَّى يُشْتَرَطَ طَهَارَتُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، بِخِلَافِ مَكَانِ السُّجُودِ إذْ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلِذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ يَحْنَثُ بِوَضْعِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَ بَاقِي بَدَنِهِ خَارِجَهَا، وَالصَّيْدُ إذَا كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْحَرَمِ وَرَأْسُهُ خَارِجَهُ صَيْدُ الْحَرَمِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ.
قولهُ: (وَحْدَهُ) احْتِرَازٌ مِمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ.
قولهُ: (لِمَا قُلْنَا) مِنْ أَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ إمَامَهُمْ بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ فَقولهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ مَنَاطِهَا وَهُوَ التَّشَبُّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَهُ بِالْمَكَانِ الْمُنْخَفِضِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الِارْتِفَاعِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَرَاهَةُ فَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ، وَقِيلَ مَا يَقَعُ بِهِ الِامْتِيَازُ، وَقِيلَ ذِرَاعٌ كَالسُّتْرَةِ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَالْوَجْهُ أَوَجْهِيَّةُ الثَّانِي لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ شَبَهُ الِازْدِرَاءِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ غَيْرُ مُقْتَصَرٍ عَلَى قَدْرِ الذِّرَاعِ.
قولهُ: (يَتَحَدَّثُ) لِإِفَادَةِ نَفْيِ الْكَرَاهَةَ بِحَضْرَةِ الْمُتَحَدِّثِينَ خِلَافًا لِلْقَائِلَيْنِ وَكَذَا بِحَضْرَةِ النَّائِمِينَ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلَا الْمُتَحَدِّثِ» فَضَعِيفٌ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَائِمَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ». قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَائِمَةً بَلْ مُضْطَجِعَةً، وَلِذَا قَالَتْ: فَكَانَ إذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضَتْ رَجْلِي. فَإِذَا قَامَ بَسَطْتهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: كَانَ ذَلِكَ الْغَمْزُ الْمُتَكَرِّرُ مِرَارًا إيقَاظًا، لَكِنْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ كُلِّهَا وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ» يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ نَائِمَةً لَا مُضْطَجِعَةً يَقْظَى. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِمَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ إلَى النِّيَامِ وَالْمُتَحَدِّثِينَ» وَإِنْ قَالَ الْبَزَّارُ لَا نَعْلَمُهُ إلَّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَيُجَابُ بِأَنَّ مَحْمَلُهُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ أَصْوَاتٌ يُخَافُ مِنْهَا التَّغْلِيظُ أَوْ الشَّغْلُ، وَفِي النَّائِمِينَ إذَا خَافَ ظُهُورَ صَوْتٍ يُضْحِكُهُ وَقَدَّمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ ظَهْرِ النَّائِمِ سُتْرَةً اخْتِلَافًا.
قولهُ: (لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَتِرُ بِنَافِعٍ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى سَارِيَةٍ قَالَ لِي: وَلِّ ظَهْرَك. وَمَا رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» وَاقِعَةُ حَالٍ لَا تَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ كَانَ إلَى ظَهْرِهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ فَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ لِرَفْعِ الْكَرَاهَةِ. وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَوْ صَلَّى إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ وَبَيْنَهُمَا ثَالِثٌ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْمُصَلِّي لَمْ يُكْرَهْ.
قولهُ: (وَبِاعْتِبَارِهِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ) قُدِّمَ الْمَعْمُولُ لِقَصْدِ إفَادَةِ الْحَصْرِ فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ النَّاسِ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ السَّيْفَ آلَةُ الْحَرْبِ وَالْبَأْسِ فَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُهُ فِي مَقَامِ الِابْتِهَالِ، وَفِي اسْتِقْبَالِ الْمُصْحَفِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ إيَّاهُ لِلْقِرَاءَةِ مِنْهُ لَا لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ قُلْنَا بِكَرَاهَةِ اسْتِقْبَالِهِ لِذَلِكَ. وَالْحَالُ ابْتِهَالٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ مُحَارَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ الْمُخَالِفَةِ. وَعَنْ هَذَا سُمِّيَ الْمِحْرَابُ.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ) لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهَانَةً بِالصُّوَرِ (وَلَا يَسْجُدُ عَلَى التَّصَاوِيرِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الصُّورَةِ، وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُصَلَّى مُعَظَّمٌ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ تَصَاوِيرُ أَوْ صُورَةٌ مُعَلَّقَةٌ) لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ: «إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ»، وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ صَغِيرَةً بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الصِّغَارَ جِدًّا لَا تُعْبَدُ (وَإِذَا كَانَ التِّمْثَالُ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ) أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ (فَلَيْسَ بِتِمْثَالٍ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ بِدُونِ الرَّأْسِ وَصَارَ كَمَا إذَا صَلَّى إلَى شَمْعٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ أَوْ عَلَى بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ لَا يُكْرَهُ) لِأَنَّهَا تُدَاسُ وَتُوطَأُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوِسَادَةُ مَنْصُوبَةً أَوْ كَانَتْ عَلَى السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهَا، وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي ثُمَّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ ثُمَّ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ عَلَى شِمَالِهِ ثُمَّ خَلْفَهُ (وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصَاوِيرُ يُكْرَهُ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَامِلَ الصَّنَمِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيع ذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا، وَتُعَادُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ (وَلَا يُكْرَهُ تِمْثَالٌ غَيْرُ ذِي الرُّوحِ) لِأَنَّهُ لَا يُعْبَدُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فِيهِ تَصَاوِيرُ) فِي الْمُغْرِبِ الصُّورَةُ عَامٌّ فِي ذِي الرُّوحِ وَغَيْرِهِ، وَالتِّمْثَالُ خَاصٌّ بِمِثَالِ ذِي الرُّوحِ لَكِنْ الْمُرَادُ هُنَا ذُو الرُّوحِ، فَإِنَّ غَيْرَ ذِي الرُّوحِ لَا يُكْرَهُ كَالشَّجَرِ، وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَثَرُ قَالَ لِلْمُصَوِّرِ: إنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَعَلَيْك بِتِمْثَالٍ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ.
قولهُ: (وَأَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الصُّورَةِ أَوَّلًا، وَقَيَّدَهَا فِي الْجَامِعِ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ لَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ. وَجْهُ مَا فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُصَلَّيْ: أَيْ السَّجَّادَةَ الَّتِي يُصَلَّى عَلَيْهَا مُعَظَّمٌ فَوَضْعُ الصُّورَةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهَا حَيْثُمَا كَانَتْ مِنْهُ، بِخِلَافِ وَضْعِهَا عَلَى الْبِسَاطِ الَّذِي لَمْ يُعَدَّ لِلصَّلَاةِ.
قولهُ: (وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ) أَيْ تَكْرَهُ الصَّلَاةُ وَفَوْقَ رَأْسِهِ إلَخْ، فَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ خَلْفَهُ أَوْ تَحْتَ رِجْلَيْهِ فَفِي شَرْحِ عَتَّابٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ. وَلَكِنْ تُكْرَهُ كَرَاهَةَ جَعْلِ الصُّورَةِ فِي الْبَيْتِ لِلْحَدِيثِ «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» وَإِلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَرَاهَةَ كَوْنِهَا فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ، وَعَدَمُ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَتْ خَلْفَهُ وَصَرِيحُ كَلَامِهِمْ فِي الْأَوَّلِ خِلَافُهُ. وَقولهُ وَأَشَدُّهَا كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ أَمَامَ الْمُصَلِّي إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ خَلْفَهُ يَقْتَضِي خِلَافَ الثَّانِي أَيْضًا، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ وَلَيْسُوا يَسْتَدْبِرُونَهُ وَلَا يَطَؤُنَهُ فِيهَا فَفِيمَا يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي ثُبُوتِهَا فِي الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ كَمَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ عَلَى أَحَدِ التَّعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ كَوْنُهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هُنَا لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ الدُّخُولِ لِلصُّورَةِ مَعَ تَسَلُّطِ الشَّيَاطِينِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَانِعٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ كَالْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَتْ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ فِي خُصُوصِ مَكَان بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهِ نَفْسِهِ لَا فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ الْقَدَمِ وَمَا ذَكَرْت يُفِيدُهُ لِأَنَّهَا فِي الْبَيْتِ. وَكَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «وَاعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي سَاعَةٍ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ وَلَمْ يَأْتِهِ وَفِي يَدِهِ عَصًا فَأَلْقَاهَا، وَقَالَ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَا رَسُولُهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ هَاهُنَا؟ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا دَرَيْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ فَلَمْ تَأْتِ فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكَلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» انْتَهَى. وَبِهِ يُعْتَرَضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَيْضًا حَيْثُ كَانَ دَلِيلُهُ عَامًّا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ، وَهُوَ يَقول لَا يُكْرَه كَوْنُهَا فِي وِسَادَةٍ مُلْقَاةٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ. فَالْجَوَابُ لَا يُكْرَهُ جَعْلُهَا فِي الْمَكَانِ كَذَلِكَ لَتَعَدَّى إلَى الصَّلَاةِ. وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَعِنْدَ النَّسَائِيّ «اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اُدْخُلْ، فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوْ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوْ اجْعَلْهَا بُسُطًا» وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسَائِيّ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ.
وَفِي الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهَا اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ فَاِتَّخَذْتُ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتْ فِي الْبَيْتِ تَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» زَادَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه: «وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ».
قولهُ: (بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ) أَيْ عَلَى بُعْدٍ مَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا تَبْدُو عَلَى الْبُعْدِ.
قولهُ: (لِأَنَّهَا لَا تُعْبَدُ) فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوَثَنِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْبَيْتِ. وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ. وَلَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ وُجِدَ عَلَيْهِ أَسَدٌ وَلَبْوَةُ بَيْنَهُمَا صَبِيٌّ يَلْحَسَانِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ قِيلَ لَهُ يُولَدُ مَوْلُودٌ يَكُونُ هَلَاكُك عَلَى يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُ مِنْ يُولَدُ، فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ دَانْيَالَ إيَّاهُ أَلْقَتْهُ فِي غَيْضَةٍ رَجَاءَ أَنْ يَسْلَمَ. فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَسَدًا يَحْفَظُهُ وَلَبْوَة تُرْضِعُهُ فَنَقَشَهُ بِمَرْأًى مِنْهُ لِيَتَذَكَّرَ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى.
قولهُ: (أَيْ مَمْحُوَّ الرَّأْسِ) فَسَّرَ بِهِ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ تُقْطَعَ بِخَيْطٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ، لِأَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانَاتِ مُطَوَّقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَطْعُهُ إلَّا بِمَحْوِهِ، وَهُوَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْخَيْطَ عَلَى كُلِّ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَخْفَى أَوْ يَطْلِيَهُ بِطِلَاءٍ يُخْفِيهِ أَوْ يَغْسِلَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا لَا تَرْتَفِعُ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تُقْطَعُ أَطْرَافُهُ وَهُوَ حَيٌّ.
قولهُ: (عَلَى مَا قَالُوا) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَهُ بَلْ الضِّرَامَ جَمْرًا أَوْ نَارًا.
قولهُ: (وَتُعَادُ) صَرَّحَ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ الْكَاكِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنَارِ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي قولهُ وَتُعَادُ، يُفِيدُهُ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ تِلْكَ الْكَرَاهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ أَوْ تَنْزِيهٍ فَتُسْتَحَبُّ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّ الظَّنِّيَّ إنْ أَفَادَ الْمَنْعَ بِدَلَالَةٍ قَطْعِيَّةٍ: أَعْنِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مُجَرَّدٌ عَنْ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ عَنْهُ، فَالثَّابِتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفَادَ إلْزَامَ الْفِعْلِ كَذَلِكَ فَالْوُجُوبُ، وَإِنْ أَفَادَ نَدْبَ الْمَنْعِ فَتَنْزِيهِيَّةٌ أَوْ الْفِعْلِ فَالْمَنْدُوبُ وَلِذَا كَانَ لَازِمُهُمَا مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ تَرَتُّبُ الْإِثْمِ بِتَرْكِ مُقْتَضَاهُمَا.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّغْلِ فَأَشْبَهَ دَرْءَ الْمَارِّ وَيَسْتَوِي جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحَيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا إذَا احْتَاجَ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي ذَلِكَ أَوْ قَلِيلٍ، وَقِيلَ بَلْ إذَا كَانَ قَلِيلًا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ كَالْمَشْيِ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِقَاءَ غَيْرُ مُفْسِدٍ فِي سَبْقِ الْحَدَثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُهُ، وَبَحْثُهُ بِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِي الرُّخْصَةِ بِالنَّصِّ يَسْتَلْزِمُ مِثْلَهُ فِي عِلَاجِ الْمَارِّ إذَا كَثُرَ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِهِ بِالنَّصِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُفْسِدٌ عِنْدَهُمْ. فَمَا هُوَ جَوَابُهُ عَنْ عِلَاجِ الْمَارِّ هُوَ جَوَابُنَا فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ، ثُمَّ أُلْحِقَ فِيمَا يُظْهِرُ الْفَسَادَ، وَقولهُمْ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الصِّحَّةِ عَلَى نَهْجِ مَا قَالُوهُ، وَمِنْ الْفَسَادِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إذَا قَاتَلُوا فِي الصَّلَاةِ بَلْ أَثَرُهُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ بِمُبَاشَرَةِ الْمُفْسِدِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا صَحِيحٌ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قِيلَ لَا تُقْتَلُ الْحَيَّةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي تَمْشِي مُسْتَوِيَةً لِأَنَّهَا مِنْ الْجَانِّ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالْأَبْتَرَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحَيَّةَ الْبَيْضَاءَ فَإِنَّهَا مِنْ الْجِنِّ».
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْس بِقَتْلِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ الْجِنَّ أَنْ لَا يَدْخُلُوا بُيُوتَ أُمَّتِهِ وَلَا يُظْهِرُوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا خَالَفُوا فَقَدْ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ فَلَا حُرْمَةَ لَهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَنْ بَعْدَهُ الضَّرَرُ بِقَتْلِ بَعْضِ الْحَيَّاتِ مِنْ الْجِنِّ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى الْإِمْسَاكُ عَمَّا فِيهِ عَلَامَةُ الْجَانِّ لَا لِلْحُرْمَةِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَقِيلَ يُنْذِرُهَا فَيَقول خَلِّي طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِنْ أَبَتْ قَتَلَهَا وَهَذَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحَاتِ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ) وَكَذَلِكَ عَدُّ السُّوَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَمِيعًا مُرَاعَاةً لِسُنَّةِ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. قُلْنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْعَدِّ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) فِي التَّجْرِيدِ قول مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا عَدَّ بِالْأَصَابِعِ أَوْ بِخَيْطٍ يَمْسِكُهُ، أَمَّا إذَا أَحْصَى بِقَلْبِهِ أَوْ غَمَزَ بِأَنَامِلِهِ فَلَا كَرَاهَةَ.
فُرُوعٌ أُخْرَى:
يُكْرَهُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُفْسِدُ كَالضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَتَغْمِيضِ الْعَيْنَيْنِ وَرَفْعِهِمَا إلَى جِهَةِ السَّمَاءِ وَتَغْطِيَةِ الْفَمِ أَوْ الْأَنْفِ وَالتَّثَاؤُبِ إذَا أَمْكَنَهُ الْكَظْمُ، فَإِنْ عَجَزَ فَفَتَحَ غَطَّى فَاهُ بِكُمِّهِ أَوْ يَدِهِ وَإِلَّا يُكْرَهُ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ أَيْضًا مَعَ تَشْمِيرِ الْكُمِّ عَنْ السَّاعِدِ وَمَكْشُوفِ الرَّأْسِ إلَّا لِقَصْدِ التَّضَرُّعِ، وَلَا بَأْسَ مَعَ شَدِّ الْوَسَطِ، وَيُكْرَهُ سَتْرُ الْقَدَمَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَتُكْرَهُ مَعَ نَجَاسَةٍ لَا تَمْنَعُ إلَّا إنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ أَوْ الْجَمَاعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ أُخْرَى، وَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ إنْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ إذَا تَذَكَّرَ هَذِهِ النَّجَاسَةَ، وَكَذَا يَقْطَعُ لِإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ أَوْ خَوْفٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ سَطْحٍ أَوْ يَغْرَقَ أَوْ يُحْرَقَ وَنَحْوِهِ. وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ إذَا سُرِقَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ قَدْرُ دِرْهَمٍ لَا لِنِدَاءِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْتَغِيثَ وَتُكْرَهُ مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ أَوْ قَبْلَهُ، وَفِي فِيهِ دِرْهَمٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَفِي أَرْضِ غَيْرِهِ. فَإِذَا اُبْتُلِيَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً أَوْ لِكَافِرٍ فَفِي الطَّرِيقِ وَإِلَّا فَفِي الْأَرْضِ. وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ إنْسَانٍ إنْ اسْتَأْذَنَهُ فَأَحْسَنُ وَإِلَّا فَلَا بَأْسَ، وَيُكْرَهُ وَقُدَّامُهُ عَذِرَةٌ كَمَا يُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ مَخْرَجٍ أَوْ قَبْرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ حَائِلُ حَائِطٍ لَا يُكْرَهُ.
وَيُكْرَهُ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ إذَا كَانَ لَهُ الْتِفَاتٌ إلَيْهِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْه: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ. وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» وَمَا فِي أَبِي دَاوُد «لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِطَعَامٍ وَلَا غَيْرِهِ» يُحْمَلُ عَلَى تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ» وَعَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ سُمْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ».

.فَصْلٌ: استقبال القبلة بالفرج:

وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَالِاسْتِدْبَارُ يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَدْبَرَ فَرْجُهُ غَيْرُ مُوَازٍ لِلْقِبْلَةِ. وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ لِأَنَّ فَرْجَهُ مُوَازٍ لَهَا وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ إلَيْهَا.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ):
قولهُ: (لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ.
قولهُ: (وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «رَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ» وَلِأَنَّ فَرْجَهُ غَيْرُ مُوَازٍ لَهَا، إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ لِتَقَدُّمِ الْمَانِعِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخْذًا بِعُمُومِ الْأَوَّلِ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِقول أَبِي أَيُّوبَ قَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَطَائِفَةٌ كَرِهُوهُ فِي الْفَضَاءِ دُونَ الْبُنْيَانِ مُطْلَقًا مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ أَخْذًا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ إلَيْهَا، فَقُلْت: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟. قَالَ بَلَى إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ رُؤْيَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَطَائِفَةٌ رَخَّصُوهُ مُطْلَقًا، فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَحَ الْأَحَادِيثَ لِتَعَارُضِهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمْ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ». وَقول أَحْمَدَ أَحْسَنُ مَا فِي الرُّخْصَةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى إنْكَارِهِ أَنَّ عِرَاكًا سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يُمْكِنُ كَوْنُهُ لَقِيَهَا فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ تُوُفِّيَ هُوَ وَعَائِشَةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةِ فَلَا يَبْعُدُ سَمَاعَهُ مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِمَا فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ عِرَاكٍ عَنْ عَائِشَةَ «جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا» الْحَدِيثَ. ثُمَّ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ قَالَ عِرَاكٌ فِيهَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قول النَّاسِ أَمَرَ بِمَقْعَدَتِهِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ». وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ تَمَسُّكًا بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا» وَلَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ وَمَنْ بَعْدَهُ. حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ فَزَالَتْ تُهْمَةُ التَّدْلِيسِ، وَلَفْظُهُم: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ أَوْ نَسْتَدْبِرَهَا بِفُرُوجِنَا إذَا هَرَقْنَا الْمَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ يَبُولُ إلَى الْقِبْلَةِ» وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَثَّقَهُ الْمُزَكُّونَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْكَبِيرِ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْأَحْوَطُ الْمَنْعُ لِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لَا يُقَاوِمُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَخْرَجَ كَثِيرًا. مَعَ أَنَّ الَّذِي فِيهِ حِكَايَةُ فِعْلِهِ وَهُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي نَسْخِ التَّشْرِيعِ الْقوليِّ لِجَوَازِ الْخُصُوصِيَّةِ: وَلَوْ نَسِيَ فَجَلَسَ مُسْتَقْبِلًا فَذَكَرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْحِرَافُ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُهُ: أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَلَسَ يَبُولُ قُبَالَةَ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ فَتَحَرَّفَ عَنْهَا إجْلَالًا لَهَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ» وَكَمَا يُكْرَهُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الصَّغِيرَ نَحْوَهَا لِيَبُولَ وَقَالُوا: يُكْرَهُ أَنْ يَمُدَّ رِجْلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَغَيْرِهِ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ كُتُبِ الْفِقْهِ إلَّا أَنْ تَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ عَنْ الْمُحَاذَاةِ.

متن الهداية:
(وَتَكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ فَوْقَ الْمَسْجِدِ وَالْبَوْلُ وَالتَّخَلِّي) لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ مِنْهُ بِمَنْ تَحْتَهُ، وَلَا يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالصُّعُودِ إلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْجُنُبِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ (وَلَا بَأْسَ بِالْبَوْلِ فَوْقَ بَيْتٍ فِيهِ مَسْجِدٌ) وَالْمُرَادُ مَا أُعِدَّ لِلصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ نَدَبْنَا إلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُكْرَهُ الْمُجَامَعَةُ) وَصَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} لَكِنَّ الْحَقَّ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ. لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُعْتَكِفِ فَتُفِيدُ أَنَّ الْوَطْءَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْآيَةِ دَالًا عَلَى مَنْعٍ فَالْمَنْعُ لِلْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ بَلْ لَوْ كَانَ مُعْتَكِفًا اعْتِكَافًا نَفْلًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِ لِلِاعْتِكَافِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ قَطْعَ نَفْلِ الِاعْتِكَافِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ إنْهَاءٌ لِلْعِبَادَةِ لَا إبْطَالٌ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِلْمَسْجِدِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَلَيْسَتْ الْآيَةُ عَلَى إطْلَاقِهَا فِي كُلِّ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ الَّذِي هُوَ إنْهَاءٌ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ، وَمَبْدَؤُهُ يَقَعُ فِي الْعِبَادَةِ فَصَارَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ يَكُونُ إنْهَاءً مَحْظُورًا. وَلَوْ سُلِّمَ عَدَمُ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا قُلْنَاهُ عَيْنًا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً كَوْنَ التَّحْرِيمِ لِلِاعْتِكَافِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ فَتَكُونُ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ، وَبِمِثْلِهَا تَثْبُتُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ لَا التَّحْرِيمُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّخَلِّي التَّغَوُّطُ لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ لَهُ حُكْمُهُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَطْهِيرِهِ وَالْبَوْلُ يُنَافِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجَلْدَةُ مِنْ النَّارِ عَلَى مَا رُوِيَ فَكَيْفَ بِالْبَوْلِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ حُكْمَ الْمَسْجِدِ) حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ إلَّا لِلنِّسَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُصَلَّى الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنَّمَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ مَكَانًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْلَقَ بَابُ الْمَسْجِدِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الصَّلَاةِ (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ) وَقولهُ لَا بَأْسَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ وَهَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ مَا يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ دُونَ مَا يَرْجِعُ إلَى النَّقْشِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَضْمَنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ مِنْ الصَّلَاةِ) وَهُوَ حَرَامٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.
قولهُ: (وَقِيلَ لَا بَأْسَ إذَا خِيفَ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ) أَحْسَنُ مِنْ التَّقْيِيدِ بِزَمَانِنَا كَمَا فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ فَالْمَدَارُ خَشْيَةُ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسْجِدِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي زَمَانِنَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ كَذَلِكَ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ لَا فَلَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا فَفِي بَعْضِهَا.
قولهُ: (وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُزَيَّنَ الْمَسَاجِدُ» الْحَدِيثَ، وَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ. وَمَحْمَلُ الْكَرَاهَةِ التَّكَلُّفُ بِدَقَائِقِ النُّقُوشِ وَنَحْوِهِ خُصُوصًا فِي الْمِحْرَابِ أَوْ التَّزْيِينُ مَعَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ عَدَمُ إعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنْ اللَّغَطِ فِيهِ وَالْجُلُوسِ لِحَدِيثِ الدُّنْيَا وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قوله: «وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ» هَذَا إذَا فَعَلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَمَّا الْمُتَوَلِّي فَيَفْعَلُ مَا يَرْجِعُ إلَى إحْكَامِ الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ الْبَيَاضَ فَوْقَ السَّوَادِ لِلنَّقَاءِ ضَمِنَ كَذَا فِي الْغَايَةِ، وَعَلَى هَذَا تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ لَا بَأْسَ بِهِ. وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَكْرَهُونَ شَدَّ الْمَصَاحِفِ وَاِتِّخَاذِ الْمَشَدَّةِ لَهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَنْعَ كَالْغَلْقِ. وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمَسْجِدِ لَا شَكَّ أَنَّ الدَّفْعَ لِلْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ تَزْيِينِهِ، وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَلَا يُحْفَرُ فِي الْمَسْجِدِ بِئْرٌ وَلَوْ كَانَتْ بِئْرًا قَدِيمَةً كَبِئْرِ زَمْزَمَ تُرِكَتْ، وَلَوْ حَفَرَ فَتَلِفَ فِيهِ شَيْءٌ إنْ حَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ضَمِنَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ أَوْ لَا. وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ الْأَشْجَارِ فِيهِ إلَّا إنْ كَانَ ذَا نَزٍّ وَالْأُسْطُوَانَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ بِهِ فَيَجُوزُ لِتَشْرَبَ ذَلِكَ الْمَاءَ فَيَحْصُلَ بِهَا النَّفْعُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ بَيْتًا لِمَتَاعِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَهُ طَرِيقًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا بَأْسَ، وَلَا يَبْزُقُ فِيهِ فَيَأْخُذَ النُّخَامَةَ بِثَوْبِهِ. وَلَوْ بَزَقَ كَانَ فَوْقَ الْحَصِيرِ أَسْهَلَ مِنْهُ تَحْتَهَا لِأَنَّ مَا تَحْتَهَا مَسْجِدٌ حَقِيقَةً وَالْحُصْرُ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِهِ حَقِيقَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَوَارٌ يَدْفِنُهَا فِي التُّرَابِ وَلَا يَدْعُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَمْسَحَ رِجْلَهُ مِنْ الطِّينِ بِأُسْطُوَانَتِه أَوْ حَائِطِهِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ بِبُرْدَتِهِ أَوْ قِطْعَةِ خَشَبٍ أَوْ حَصِيرٍ مُلْقَاةٍ فِيهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَبِتُرَابِ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ مَجْمُوعًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَبْسُوطًا يُكْرَهُ. وَإِذَا نَزَحَ الْمَاءَ النَّجِسَ مِنْ الْبِئْرِ كُرِهَ أَنْ يَبُلَّ بِهِ الطِّينَ فَيُطَيِّنَ بِهِ الْمَسْجِدَ عَلَى قول مَنْ اعْتَبَرَ نَجَاسَةَ الطِّينِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَنْجَاسِ وَيُكْرَهُ التَّوَضِّي فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَضْمَضَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعٌ اُتُّخِذَ لِذَلِكَ لَا يُصَلَّى فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعْمَلَ فِيهِ الصَّنَائِعُ لِأَنَّهُ مُخَلَّصٌ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْخَيَّاطِ إذَا جَلَسَ فِيهِ لِمَصْلَحَتِهِ مِنْ دَفْعِ الصِّبْيَانِ وَصِيَانَةِ الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَلَا يَدُقُّ الثَّوْبَ عِنْدَ طَيِّهِ دَقَّا عَنِيفًا. وَاَلَّذِي يَكْتُبُ إذَا كَانَ بِأَجْرٍ يُكْرَهُ وَبِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يُكْرَهُ، هَذَا إذَا كَتَبَ الْعِلْمَ وَالْقُرْآنَ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُكْتِبُونَ الَّذِينَ تَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ الصِّبْيَانُ وَاللَّغَطُ فَلَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَغَطٌ لِأَنَّهُمْ فِي صِنَاعَةٍ لَا عِبَادَةٍ، إذْ هُمْ يَقْصِدُونَ الْإِجَادَةَ لَيْسَ هُوَ لِلَّهِ بَلْ لِلِارْتِزَاقِ، وَمُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ كَالْكَاتِبِ إنْ كَانَ لِأَجْرٍ لَا وَحِسْبَةً لَا بَأْسَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ هَذَا إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ، وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ بِأَجْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ حِسْبَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِأَجْرٍ فَلَا شَكَّ فِي الْكَرَاهَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ حِسْبَةً وَلَا ضَرُورَةَ يُكْرَهُ لِأَنَّ نَفْسَ التَّعْلِيمِ وَمُرَاجَعَةَ الْأَطْفَالِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ صَلَاةٍ جَائِزٌ لَا لِلْمُصِيبَةِ. وَالْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِيهِ مَكْرُوهٌ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ وَالنَّوْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ لِلْغَرِيبِ أَنْ يَنَامَ فِيهِ.
وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الصَّوْمِ عَنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ فِي الْمَسْجِدِ مَكَانًا مُعِينًا يُصَلِّي فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَصِيرُ لَهُ طَبْعًا فِيهِ وَتَثْقُلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْعِبَادَةُ إذَا صَارَتْ طَبْعًا فَسَبِيلُهَا التَّرْكُ وَلِذَا كُرِهَ صَوْمُ الْأَبَدِ انْتَهَى. فَكَيْفَ بِمَنْ اتَّخَذَهُ لِغَرَضٍ آخَرَ فَاسِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.


.بَابُ صَلَاةِ الْوِتْرِ:

(الْوِتْرُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَا سُنَّةٌ) لِظُهُورِ آثَارِ السُّنَنِ فِيهِ حَيْثُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَا يُؤَذَّنُ لَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» أَمْرٌ وَهُوَ لِلْوُجُوبِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَهُوَ يُؤَدَّى فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَاكْتَفَى بِأَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ صَلَاةِ الْوِتْرِ).
قولهُ: (حَيْثُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ) لَا يُفِيدُ إذْ إثْبَاتُ اللَّازِمِ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَات الْمَلْزُومِ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا سَاوَاهُ وَهُوَ هَاهُنَا أَعَمُّ، فَإِنَّ عَدَمَ الْإِكْفَارِ بِالْجَحْدِ لَازِمُ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ لَازِمُ السُّنَّةِ، وَالْمُدَّعَى الْوُجُوبُ لَا الْفَرْضُ وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ التَّأْذِينِ فَأَقْرَبُ عَلَى مَا فِيهِ، فَالثَّانِي يَسْتَقِلُّ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَنَفَيَاهُ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَخَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَأَبِي نَضْرَةَ الْغِفَارِيِّ، فَعَنْ عُقْبَةَ وَعَمْرٍو رَوَاهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. الْوِتْرُ وَهِيَ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَضَعَّفَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ قُرَّةُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ النَّضْرِ أَبِي عُمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالنَّضْرِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَضَعَّفَهُ بِحُمَيْدِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ وَهُوَ «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ» وَعَنْ الْخُدْرِيِّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ أَيْضًا مِثْلُ مَا فِي حَدِيثِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِيه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا فَاجْتَمَعْنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَأَمَرَنَا بِالْوِتْرِ» وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ. وَعَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهَيْعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا نَضْرَةَ الْغِفَارِيَّ يَقول: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنَّ اللَّهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ» وَسَكَتَ عَنْهُ وَأُعِلَّ بِابْنِ لَهِيعَةَ. وَعَنْ خَارِجَةَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ خَيْرٍ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ لِتَفَرُّدِ التَّابِعِيِّ عَنْ الصَّحَابِيِّ وَقول التِّرْمِذِيِّ غَرِيبٌ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ لِمَا عُرِفَ، وَلِذَا يَقول مِرَارًا فِي كِتَابِهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّهُ أَعَلَّهُ بِقولهِ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ بَعْضٍ فَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِهِ الْعِلْمَ بِاللُّقِيِّ، وَالصَّحِيحُ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِيِّ. وَإِعْلَالُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ بِابْنِ إِسْحَاقَ وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَاشِدٍ نُقِلَ تَضْعِيفُ ابْنِ رَاشِدٍ عَنْ الدَّارَقُطْنِيُّ، أَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَثِقَةٌ ثِقَةٌ لَا شُبْهَةَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ وَلَا عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُحَدِّثِينَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَدْ تَابَعَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ تَضْعِيفِ ابْنِ رَاشِدٍ فَغَلَّطَهُ فِيهِ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ لِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ إنَّمَا ضَعَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَاشِدٍ الْبَصْرِيَّ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَمَّا هَذَا رَاوِي حَدِيثِ خَارِجَةَ فَهُوَ الرَّوْقِيُّ أَبُو الضَّحَّاكِ الْمِصْرِيُّ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ انْتَهَى. وَمُتَابَعَةُ اللَّيْثِ وَالتَّصْرِيحُ بِكَوْنِ الرَّوْقِيُّ كِلَاهُمَا فِي إسْنَادِ النَّسَائِيّ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْكُنَي فَتَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ فِي الصِّحَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَانَ فِي كَثْرَةِ طُرُقِهِ الْمُضَعَّفَةِ ارْتِفَاعٌ لَهُ إلَى الْحُسْنِ، بَلْ بَعْضُهَا حَسَنٌ حُجَّةٌ وَهُوَ طَرِيقُ ابْنِ رَاهْوَيْهِ. وَقُرَّةُ إنْ قَالَ أَحْمَدُ فِيهِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا جِدًّا، وَأَرْجُو أَنْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ: بَقِيَ الشَّأْنُ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، فَقِيلَ مِنْ لَفْظِ زَادَكُمْ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حَصْرِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالْمَحْصُورُ الْفَرَائِضُ لَا النَّوَافِلُ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَاتِكُمْ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» فَإِنْ اقْتَضَى لَفْظُ زَادَكُمْ الْحَصْرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي هَذَا كَوْنُ الْمَحْصُورَةِ الْمَزِيدَةِ عَلَيْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَحْصُورَةُ أَعَمُّ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ لَفْظُ زَادَكُمْ كَوْنَ الْمَزِيدِ فَرْضًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى الْمَحْصُورَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ: أَعْنِي السُّنَنَ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الصَّارِفُ لِلْمُصَنِّفِ عَنْ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَعَ شُهْرَتِهَا بَيْنَهُمْ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، لَكِنْ لَفْظُ الْأَمْرِ إنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثِ ابْنِ لَهَيْعَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَقَدْ ضُعِّفَ، فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ فِيهِ بِمَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الْمُنِيبِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ لَيْسَ مِنِّي، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي، الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ أَبُو الْمُنِيبِ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْت أَبِي يَقول صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الْبُخَارِيِّ إدْخَالَهُ فِي الضُّعَفَاءِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا بَأْسَ بِهِ فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ حَكَّامٍ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» وَقَالَ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنْ قِيلَ الْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ لِلنَّدَبِ وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ، وَكَذَا الْوَاجِبُ لُغَةً، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ وَلِقِيَامِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ» وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَكَانَ بَعَثَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ.
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ مِنْ الْيَمَنِ وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنْ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ هَذِهِ» أَحْسَنُ مَا يُعَارَضُ لَهُمْ بِهِ، وَلَهُمْ غَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ تَمَامِ دَلَالَةٍ. وَأَمَّا الْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ لِلْوُجُوبِ إلَى اللُّغَوِيِّ فَمَا فِي السُّنَنِ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةِ فَلْيُوتِرْ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا وَجْهُ الْقَرِينَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ بِالْوُجُوبِ ثُمَّ خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ خِصَالٍ إحْدَاهَا أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ كُلُّ خَصْلَةٍ تَخَيَّرَ فِيهَا تَقَعُ وَاجِبَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْخَمْسِ فَلَزِمَ صَرْفُهُ إلَى مَا قُلْنَا وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يُصَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ لِعُذْرِ الطِّينِ وَالْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَمْ يُقَارِنْ وُجُوبَ الْخَمْسِ بَلْ مُتَأَخِّرٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ لِلْوِتْرِ. رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالْأَرْضِ وَيَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ أَنَّ وِتْرَهُ ذَلِكَ كَانَ إمَّا حَالَةَ عَدَمِ وُجُوبِهِ أَوْ لِلْعُذْرِ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْوِتْرَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ جَوَازَ هَذَا الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، ثُمَّ يَقولونَ لِخَصْمِهِمْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا أُدِّيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَهُمْ نَسْخُ وُجُوبِهِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَصِحُّ قولهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ، فَإِنَّا لَا نَقول بِجَوَازِهِ عَلَى الدَّابَّةِ لِوُجُوبِهِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ كَانَ بَعْدَ سَفَرِهِ، وَعَنْ الثَّالِثِ كَالْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَوْ الْمُرَادُ الْمَجْمُوعُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْمُخْتَتَمَةِ بِوِتْرٍ وَنَحْنُ نَقول بِعَدَمِ وُجُوبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ كَذَلِكَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ حِينَئِذٍ فَرْدٌ وَذَلِكَ وِتْرٌ لَا شَفْعٌ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّوَافِلِ مَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ لِلْمُتَأَمِّلِ، بَلْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ الْمُورَدِ فَإِنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي الْقَابِلَةِ: يَعْنِي عَمَّا فَعَلَهُ فِي السَّابِقَةِ أَلْبَتَّةَ، وَعَلَّلَ تَأَخُّرَهُ عَنْ ذَلِكَ بِخَشْيَةِ أَنْ يُكْتَبَ الْوِتْرُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْوِتْرِ ظَاهِرَ الصَّلَاةِ الَّتِي فُعِلَتْ مُخْتَتَمَةً بِالْوِتْرِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْبَجَلِيِّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قولهِ خَشْيَةَ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ. وَعَنْ الْقَرِينَةِ الْمُدَّعَاةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوِتْرِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ كَانَ أَوَّلًا كَذَلِكَ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي آخِرِهَا» فَدَلَّ أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ أَوَّلًا خَمْسَةً، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ يُفِيدُ خِلَافَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَا تُوتِرْ بِثَلَاثٍ، أَوْتِرْ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ» وَالْإِيتَارُ بِثَلَاثٍ جَائِزٌ إجْمَاعًا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَمْرُ الْوِتْرِ، وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي» مُؤَكَّدٌ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
قولهُ: (وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ ثَبَتَ، وَإِلَّا فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ مَحَلُّ النِّزَاعِ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَاةٌ مَقْضِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ فَتَجِبُ كَالْمَغْرِبِ، أَمَا إنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي وَقْتِهَا السَّحَرُ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ كَرَاهَةً فِي الْعِشَاءِ، فَلَوْ كَانَ سُنَّةٌ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ لَمْ يَتَخَالَفْ وَقْتُهُمَا فِي الصِّفَةِ بَلْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِيهِ الْمُسْتَحَبَّ فِيهِ.
قولهُ: (وَهُوَ الْمَعْنِيّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ سُنَّةٌ) وَعَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ: أَيْ عَمَلِيٌّ وَهُوَ الْوَاجِبُ فَعَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ وَالْمُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوُجُوبُ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ اجْتَمَعَتْ أَهْلُ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِ الْوِتْرِ أَدَّبَهُمْ أَوْ حَبَسَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا قَاتَلَهُمْ فَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ السُّنَنِ قَالَ مَشَايِخُ بُخَارَى يُقَاتِلُهُمْ كَالْفَرَائِضِ.

متن الهداية:
قَالَ: (الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لَا يُفْصَلُ بَيْنهنَّ بِسَلَامٍ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» وَحَكَى الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلَاثِ، هَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي قول يُوتِرُ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَهُوَ قول مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا رَوَيْنَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ»، وَكَذَا رَوَى النَّسَائِيّ عَنْهَا قَالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيْ الْوِتْرِ» وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ قِيلَ لِلْحَسَنِ إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الْوِتْرِ فَقَالَ كَانَ عُمَرُ أَفْقَهَ مِنْهُ وَكَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّانِيَةِ بِالتَّكْبِيرِ انْتَهَى وَسَكَتَ عَنْهُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْفَرَجِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مُخَوَّلٍ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» إلَى آخَرِ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْمُسْتَدْرَكِ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْوِتْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» وَظَاهِرُ هَذَا وَصْلُ الثَّالِثَةِ لِجَعْلِهِ الْأُولَى بَعْضَ الْوِتْرِ فِي قولهِ مِنْ الْوِتْرِ وَإِلَّا لَقَالَتْ فِيهِ وَفِي الرَّكْعَةِ الْوِتْرُ، وَأَمَّا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاحِدَةٌ بِتَحْرِيمَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِنَحْتَاجَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِجَوَابِهِ، إذْ يُحْتَمَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ كَوْنِهِ إذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً فَأَنَّى يُقَاوِمُ الصَّرَائِحَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ تَرَكْنَاهُ لِحَالِ الطُّولِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ الْوِتْرِ فَقَالَ: عَلَّمَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْوِتْرَ مِثْلُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. هَذَا وِتْرُ اللَّيْلِ وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ.
وَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ الْوِتْرَ أَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَأُمُّ وَلَدِهِ خَلْفَنَا ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ. عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوهُ يُفِيدُ تَقَيُّدَ جَعْلِهَا وَاحِدَةً بِالضَّرُورَةِ وَهِيَ خَشْيَةُ طُلُوعِ الْفَجْرِ خُصُوصًا عَلَى قولهِمْ مِنْ حُجِّيَّةِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَعَلَى قولنَا الْمُتَقَرِّرُ نَفْيُ شَرْعِيَّتِهَا، فَإِذَا أُبِيحَتْ بِشَرْطٍ تَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ، لَكِنَّا لَا نُجِيزُهَا أَيْضًا لِذَلِكَ عِنْدَ خَشْيَةِ الصُّبْحِ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُحْتَمَلَيْهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَمَا قُلْنَا، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ لِمَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ رِوَايَاتِ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُ تَحَكَّمَ عِنْدَ تَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَى ثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ الْبُتَيْرَاءِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَرْعِيَّتُهَا لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ الْوِتْرِ إيَّاهَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الشَّفْعَ مَشْرُوعٌ وَلَا يُمْكِنُ ادِّعَاءُ كَوْنِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ بِخُصُوصِهِ إيَّاهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ كَوْنُهُ ثَلَاثًا كَالْمَغْرِبِ، وَكَذَا صَحَّ عَنْ ابْن مَسْعُودٍ «وِتْرُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ كَوِتْرِ النَّهَارِ»، وَإِنَّمَا ضَعَّفُوا رَفْعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْفَعْهُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا يَحْيَى بْنُ أَبِي الْحَوَاجِبِ وَقَدْ ضُعِّفَ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا قِرَاءَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا سِوَى قِرَاءَةِ الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».
قولهُ: (وَحَكَى الْحَسَنُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ) فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلَّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَعَمْرٌو هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي إسْنَادٍ آخَرَ مِثْلِ هَذَا.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّام مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ نِزَارِ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فِي مَشْيَخَةٍ سِوَاهُمْ أَهْلُ فِقْهٍ وَصَلَاحٍ، فَكَانَ مِمَّا وَعَيْت عَنْهُمْ أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا يُسَلَّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ.

متن الهداية:
(وَيَقْنُتُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَنَتَ فِي آخَرِ الْوِتْرِ» وَهُوَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَمَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الشَّيْءِ آخِرُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنْ الْوِتْرِ، هَاهُنَا ثَلَاثُ خِلَافِيَّاتٍ: إحْدَاهَا أَنَّهُ إذَا قَنَتَ فِي الْوِتْرِ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَالثَّالِثَةُ هَلْ يَقْنُتُ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ أَوْ لَا، لَهُ فِي الْأُولَى مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ. قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يَقولونَ: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخَرِ الْوِتْرِ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ». وَقولهُ وَهُوَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ، وَلَهُمْ مَا هُوَ أَنَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَصَحَّحَهُ قال: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقولهُنَّ فِي وِتْرِي إذَا رَفَعْتُ رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّجُودَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ» إلَى آخِرِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْقُنُوتِ.
قولهُ: (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ») لَوْ قَالَ: كَانَ يَقْنُتُ كَانَ أَوْلَى. قَالَ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» انْتَهَى لِابْنِ مَاجَهْ. وَلَفْظُ النَّسَائِيّ «كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» انْتَهَى. وَزَادَ فِي سُنَنِه: «فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي آخِرِهِنَّ» ثُمَّ قَالَ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ وَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، يُرِيدُ بِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْ زُبَيْدٍ الَّذِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ الْأَعْمَشَ وَشُعْبَةَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَرِيرَ بْنِ حَازِمٍ. لَكِنْ غَايَتُهُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ الْعَدْلُ بِالزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ لَهُ حَدِيثَ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَهْوَازِيِّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي نُوَيْرَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ وَسَكَتَ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «أَوْتَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ الْقَدَّاحُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَيَجْعَلُ الْقُنُوتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَقول أَبِي نُعَيْمٍ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبٍ، وَالْعَلَاءُ تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَقول الطَّبَرَانِيُّ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ إلَّا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ لَا يُوجِبُ الْبُعْدَ لِمَا قُلْنَا فِي كَلَامِ النَّسَائِيّ، بَلْ قَدْ حَصَلَ مِنْ انْفِرَادِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ، وَمِنْ تَفَرُّدِ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ، وَمِنْ تَفَرُّدِ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ مَعَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي سَكَتَ عَلَيْهِ فِي التَّحْقِيقِ تَظَافَرَ كَثِيرٌ مَعَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا إمَّا حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ. وَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا فَقَطْ بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَل: «سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَكَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ قَبْلَهُ، قُلْتُ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَهُ، قَالَ كَذَبَ، إنَّمَا قَنَتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا» انْتَهَى وَعَاصِمٌ كَانَ ثِقَةً جِدًّا وَلَا مُعَارَضَةَ مُحَتَّمَةٌ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ أَنَسٍ، بَلْ هَذِهِ تَصْلُحُ مُفَسِّرَةً لِلْمُرَادِ بِمَرْوِيِّهِمْ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَهُ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا: قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وَلَمَّا تَرَجَّحَ ذَلِكَ خَرَجَ مَا بَعْدَ الرُّكُوعِ مَعَ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْقُنُوتِ، فَلِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ الْقُنُوتِ فَتَذَّكَّرَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَا يَقْنُتُ، وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا لَا يَقْنُتُ، وَالْأُخْرَى يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ فَيَقْنُتُ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ وَلَمْ يُعِدْ الرُّكُوعَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ رُكُوعَهُ قَائِمٌ لَمْ يَرْتَفِضْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ فِي رِوَايَةٍ: يَعُودُ وَيَقْنُتُ وَلَا يُعِيدُ الرُّكُوعَ وَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَنَتَ أَوْ لَمْ يَقْنُتْ، وَهَذَا يُحَقِّقُ خُرُوجَ الْقَوْمَةِ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ إلَّا إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ نَسِيَ السُّورَةَ وَالْقُنُوتَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَعُودُ إذَا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فَيَقْرَؤُهُمَا وَيَرْتَفِضُ الرُّكُوعَ، فَلَوْ لَمْ يَرْكَعْ بَطَلَتْ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ بِرَكْعَتَيْنِ إذَا قَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الثَّالِثَةِ لَا يَقْنُتُ مَرَّةً أُخْرَى. وَعَنْ أَبِي الْفَضْلِ تَسْوِيَتُهُ بِالشَّاكِّ وَسَيَأْتِي فِي سُجُودِ السَّهْوِ، وَلَوْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ فَرَكَعَ وَهُوَ لَمْ يَفْرُغْ يُتَابِعُهُ، وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ وَتَرَكَ الْقُنُوتَ وَلَمْ يَقْرَأْ الْمَأْمُومُ مِنْهُ شَيْئًا إنْ خَافَ فَوْتَ الرُّكُوعِ يَرْكَعُ وَإِلَّا قَنَتَ ثُمَّ رَكَعَ. الْخِلَافِيَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُ فِيهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ الشَّهْرِ: يَعْنِي رَمَضَانَ وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ إلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، فَإِذَا كَانَ الْعَشَرُ الْأَوَاخِرُ تَخَلَّفَ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ. وَلِلْمَتْنِ طَرِيقٌ آخَرُ ضَعَّفَهَا النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ، وَمَا أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ» إلَخْ ضَعِيفٌ بِأَبِي عَاتِكَةَ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَعَ أَنَّ الْقُنُوتَ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لِلنِّصْفِ الْأَخِيرِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا الْمَعْنَى يَمْنَعُ تَبَادُرَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ «اجْعَلْهُ فِي وِتْرِكَ» وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ. وَالْمَعْرُوفُ مَا أَخْرَجُوهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ الْحَسَنِ بْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقولهُنَّ فِي الْوِتْرِ، وَفِي لَفْظٍ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافَنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتُوَلِّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ ابْن حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ وَالَيْت «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» وَزَادَ النَّسَائِيّ «بَعْدَ وَتَعَالَيْتَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» قَالَ النَّوَوِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ فِيهِ: إذَا رَفَعْت رَأْسِي وَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّجُودُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَخْرَجَ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقول فِي آخَرِ وِتْرِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَبْلَ هَذِهِ مَا هُوَ أَنَصُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى قُنُوتِ الْوِتْرِ مِنْ هَذَا فَارْجِعْ إلَيْهِ تَسْتَغْنِ عَنْ هَذَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ. وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إثْبَاتِ وُجُوبِ الْقُنُوتِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِ: أَعْنِي قوله: «اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. فَلَمْ يَثْبُتْ لِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِالتَّرْكِ مَرَّةً، لَكِنْ مُطْلَقُ الْمُوَاظَبَةِ أَعَمُّ مِنْ الْمَقْرُونَةِ بِهِ أَحْيَانًا وَغَيْرِ الْمَقْرُونَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ وَإِلَّا لَوَجَبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَيْنًا أَوْ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا، لَكِنَّ الْمُتَقَرِّرَ عِنْدَهُمْ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مُضَرَ إذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ فَسَكَتَ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْكَ سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بَعَثَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ثُمَّ عَلَّمَهُ الْقُنُوتَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْضَعُ لَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخَافُ عَذَابَكَ إنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ» وَعَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يُؤَقَّتُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ صِدْقِ رَغْبَةٍ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. قَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ فِي غَيْرِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ قُنُوتَ الْحَسَنِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ. ثُمَّ إذَا شَرَعَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت، لَمْ يَذْكُرْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِيهِ، وَاَلَّذِي فِي تَرْجَمَةِ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ الْفَقِيهُ: حَدَّثَنِي فَرَجٌ مَوْلَى أَبِي يُوسُفَ قَالَ: رَأَيْت مَوْلَايَ أَبَا يُوسُفَ إذَا دَخَلَ فِي الْقُنُوتِ لِلْوِتْرِ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ: كَانَ فَرَجٌ ثِقَةً انْتَهَى. وَوَجْهُهُ عُمُومُ دَلِيلِ الرَّفْعِ لِلدُّعَاءِ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا رَفْعَ فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ، وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الْقُنُوتَ يَقول: «رَبّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ يَقول اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَيُكَرِّرُ ثَلَاثًا انْتَهَى. وَحَدِيثُ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ.

متن الهداية:
وَيَقْنُتُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ «لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عَلَّمَهُ دُعَاءَ الْقُنُوتِ اجْعَلْ هَذَا فِي وِتْرِك» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْ الْوِتْرِ (فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً) لِقولهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ) لِأَنَّ الْحَالَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ (وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَنَتَ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْقُنُوتَ (وَلَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةٍ غَيْرِهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَجْرِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا» ثُمَّ تَرَكَهُ (فَإِنْ قَنَتَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَسْكُتُ مَنْ خَلْفَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُتَابِعُهُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ، وَالْقُنُوتُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَلَا مُتَابَعَةَ فِيهِ، ثُمَّ قِيلَ يَقِفُ قَائِمًا لِيُتَابِعَهُ فِيمَا تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ، وَقِيلَ يَقْعُدُ تَحْقِيقًا لِلْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ السَّاكِتَ شَرِيكُ الدَّاعِي وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الشَّرْحُ:
الْخِلَافِيَّةُ الثَّالِثَةُ لَهُ فِيهَا حَدِيثُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَنَسٍ «مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَأَنَا أَقْرَبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقول سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ. تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ» وَفِي هَذَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّ قولهُمْ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت وَعَافِنَا بِالْجَمْعِ خِلَافُ الْمَنْقول، لَكِنَّهُمْ لَفَقُّوهُ مِنْ حَدِيثٍ فِي حَقِّ الْإِمَامِ عَامٍّ لَا يَخُصُّ الْقُنُوتَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقول ذَلِكَ وَهُوَ إمَامٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مُنْفَرِدًا لِيَحْفَظَهُ الرَّاوِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: إنَّهُ رُوِيَ: يَعْنِي الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَنَسٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنْ التَّابِعِينَ. وَالْجَوَابُ أَوَّلًا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ الَّذِي هُوَ النَّصُّ فِي مَطْلُوبِهِمْ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِعَبْدِ اللَّهِ هَذَا، ثُمَّ نَقول فِي دَفْعِ مَا قَبْلَهُ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهِ قَرِيبًا تَمَسُّكًا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْقَصَّابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمْ يَقْنُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّبْحِ إلَّا شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ». وَأَعَلُّوهُ بِالْقَصَّابِ، تَرَكَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَاصِلُ تَضْعِيفُهُمَا إيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ كُثَيِّرٌ الْوَهْمِ، فَلَا يَكُونُ حَدِيثُهُ رَافِعًا لِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِالْقَوِيِّ، قُلْنَا بِمِثْلِ هَذَا ضَعَّفَ جَمَاعَةٌ أَبَا جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِيهِ: كَانَ يَخْلِطُ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ يُخْطِئُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ يَهِمُ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَنْفَرِدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنْ الْمَشَاهِيرِ فَكَافَأَهُ الْقَصَّابُ، ثُمَّ يُقَوِّي ظَنَّ ثُبُوتِ مَا رَوَاهُ الْقَصَّابُ بِأَنَّ شَبَابَةَ رَوَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: «قُلْنَا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ بِالْفَجْرِ، فَقَالَ: كَذَبُوا إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُشْرِكِينَ». فَهَذَا عَنْ أَنَسٍ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْهُ، وَفِي أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَيْسٌ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ فَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِدُونِ أَبِي جَعْفَرٍ بَلْ مِثْلِهِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ ضَعَّفُوا أَبَا جَعْفَرٍ أَكْثَرُ مِمَّنْ ضَعَّفَ قَيْسًا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ تَضْعِيفُ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ، وَذَكَرَ سَبَبَ تَضْعِيفِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ: سَأَلْت يَحْيَى عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ ضَعِيفٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ عَنْ عُبَيْدَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ عَنْ مَنْصُورٍ. وَهَذَا لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ إذْ غَايَتُهُ أَنَّهُ غَلَطٌ فِي ذِكْرِ عُبَيْدَةَ بَدَلَ مَنْصُورٍ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ مِثْلِ هَذَا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ؟ كَذَا قِيلَ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ يَحْيَى، قَالَ النَّسَائِيّ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ضَعِيفٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ كَانَ كَثِيرَ الْخَطَأِ وَلَهُ أَحَادِيثُ مُنْكَرَةٌ، وَكَانَ وَكِيعٌ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ يُضَعِّفَانِهِ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، لَكِنْ كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ يَحْيَى لَا يُرْضِي قَيْسَ بْنَ الرَّبِيعِ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: قَالَ لِي شُعْبَةُ: أَلَا تَرَى إلَى قَيْسِ بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَتَكَلَّمُ فِي قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَاَللَّهِ مَا لَهُ إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، وَقَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لِي شُعْبَةُ عَلَيْك بِقَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: سَيَّرْت أَخْبَارَ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ مِنْ رِوَايَاتِ الْقُدَمَاءِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَتَتَبَّعْتهَا فَرَأَيْته صَدُوقًا فِي نَفْسِهِ مَأْمُونًا حَيْثُ كَانَ شَابًّا، فَلَمَّا كَبُرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَامْتُحِنَ بِوَلَدِ سُوءٍ يُدْخِلُ عَلَيْهِ، وَسَرَدَ بْنُ عَدِيٍّ لَهُ جُمْلَةً ثُمَّ قَالَ: وَلِقَيْسٍ غَيْرُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ وَعَامَّةُ رِوَايَاتِهِ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَحَلُّهُ الصِّدْقُ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: الْقول مَا قَالَهُ شُعْبَةُ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَلَا يَنْزِلُ بِذَلِكَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ الرَّازِيّ وَيَزْدَادُ اعْتِضَادُهُ، بَلْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ مَا نَسَبْنَاهُ لِأَنَسٍ مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْقُنُوتِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَقْنُتُ إلَّا إذَا دَعَا لِلْقَوْمِ أَوْ دَعَا عَلَيْهِمْ» وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ قَالَهُ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ نَحْوَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْ دِينَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَادِمِ أَنَسٍ مَا زَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى مَاتَ وَغَيْرُهُ فَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَبَلَغَ فِيهِ الْغَايَةَ وَنَسَبَهُ إلَى مَا يَنْبَغِي صَوْنُ كِتَابِنَا عَنْهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَقَدْ اشْتَهَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِيهَا بِالْوَضْعِ عَلَى أَنَسٍ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» أَسْلَفْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ قول أَنَسٍ لِعَاصِمٍ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الْقُنُوتِ نَعَمْ ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ فُلَانًا قَالَ بَعْدَهُ فَقَالَ كَذَبَ إنَّمَا «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا». إنَّمَا يَقْتَضِي بَقَاءَ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ، وَنَحْنُ نَقول بِهِ إذْ نَقول بِبَقَائِهِ فِي الْوِتْرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَ عَارَضَهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْهُ، وَأَنَصُّ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْنُتْ فِي الْفَجْرِ قَطُّ إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا»، لَمْ يُرَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا قَنَتَ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ يَدْعُو عَلَى نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَهَذَا لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ نَفْسُهُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ فَرَقَدَ الطَّحَّانُ. قَالَ: كُنْت عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهْرَيْنِ فَلَمْ يَقْنُتْ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ. وَإِذَا ثَبَتَ النَّسْخُ وَجَبَ حَمْلُ الَّذِي عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَنَحْوِهِ إمَّا عَلَى الْغَلَطِ أَوْ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ «عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ»: أَيْ الْقِيَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِيَامًا، وَالْإِشْكَالُ نَشَأْ مِنْ اشْتَرَاكِ لَفْظِ الْقُنُوتِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ وَبَيْنَ الْخُضُوعِ وَالسُّكُوتِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِهَا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى قُنُوتِ النَّوَازِلِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْنُت فِي النَّوَازِلِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ «كَانَ لَا يَقْنُتُ إلَّا إذَا دَعَا» إلَخْ، وَسَنَنْظُرُ فِيهِ، وَيَكُونُ قولهُ ثُمَّ تَرَكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: يَعْنِي الدُّعَاءَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ لَا مُطْلَقًا. وَأَمَّا قُنُوتُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيُّ فَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ الْقُنُوتَ وَالدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْقُنُوتَ الْمُسْتَمِرَّ لَيْسَ يُسَنُّ فِيهِ الدُّعَاءُ لِهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ صُبْحٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا أَرَادُوا إنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرِ لَفْظِ الرَّاوِي مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ». وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ، فَلَزِمَ أَنَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَا، أَوْ بَقَاءُ قُنُوتِ النَّوَازِلِ لِأَنَّ قُنُوتَهُ الَّذِي رَوَاهُ كَانَ كَقُنُوتِ النَّوَازِلِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْقُنُوتُ سُنَّةً رَاتِبَةً جَهْرِيَّةً وَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيه: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ، وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ وَصَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ، ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ إنَّهَا بِدْعَةٌ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَفْظُهُ وَلَفْظُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: «قُلْت لِأَبِي يَا أَبَتِ إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ أَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ» وَهُوَ أَيْضًا يَنْفِي قول الْحَازِمِيِّ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَقولهُ إنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ مُعَارَضٌ بِقول حَافِظٍ آخَرَ إنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيّ: أَنَّهُ لَمَّا قَنَتَ فِي الصُّبْحِ أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ. فَقَالَ اسْتَنْصَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَيْسَ النَّاسُ إذْ ذَاكَ إلَّا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْنُتُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قُنُوتِ الْفَجْرِ مَا شَهِدْت وَمَا عَلِمْت، وَمَا أَسْنَدَ الْحَازِمِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قول ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُنُوتِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقول كَبِرْنَا وَنَسِينَا ائْتُوا سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَاسْأَلُوهُ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْنُتْ بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ صَحِبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَنَتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَلَمْ يَرَهُ قَانِتًا فِي الْفَجْرِ. وَهَذَا سَنَدٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَنِسْبَةُ ابْنَ عُمَرَ إلَى النِّسْيَانِ فِي مِثْلِ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا يَقْرُبُ ادِّعَاؤُهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تُسْمَعُ وَتُحْفَظُ أَوْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُفْعَلُ أَحْيَانًا فِي الْعُمْرِ، أَمَّا فِعْلٌ يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ إلَى فِعْلِهِ كُلَّ غَدَاةٍ مَعَ خَلْقٍ كُلُّهُمْ يَفْعَلُهُ ثُمَّ مِنْ صُبْحٍ إلَى صُبْحٍ يَنْسَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَقول مَا شَهِدْت وَلَا عَلِمْت وَيَتْرُكُهُ مَعَ أَنَّهُ يُصْبِحُ فَيَرَى غَيْرَهُ يَفْعَلُهُ فَلَا يَتَذَكَّرُ فَلَا يَكُونُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْعَقْلِ. وَبِمَا قَدَّمْنَاهُ إلَى هُنَا انْقَطَعَ بِأَنَّ الْقُنُوتَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً رَاتِبَةً، إذْ لَوْ كَانَ رَاتِبَةً يَفْعَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ صُبْحٍ يَجْهَرُ بِهِ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ يُسِرُّ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ، بَلْ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُنْقَلَ كَنَقْلِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ وَمُخَافَتَتِهَا وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، فَإِنَّ مُوَاظَبَتَهُ عَلَى وُقُوفِهِ بَعْدَ فَرَاغِ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ زَمَانًا سَاكِتًا فِيمَا يَظْهَرُ كَقول مَالِكٍ مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ خَلْفَهُ وَتَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى سُؤَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَاذَا، وَأَقْرَبُ الْأُمُورِ فِي تَوْجِيهِ نِسْبَةِ سَعِيدٍ النِّسْيَانَ لِابْنِ عُمَرَ إنْ صَحَّ عَنْهُ أَنْ يُرَادُ قُنُوتُ النَّازِلَةِ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفَى الْقُنُوتَ مُطْلَقًا، فَقَالَ سَعِيدٌ: قَنَتَ مَعَ أَبِيهِ: يَعْنِي فِي النَّازِلَةِ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُوَاظَبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ لُزُومِ سَبَبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَنَتَ عِنْدَ مُحَارَبَةِ الصَّحَابَةِ مُسَيْلِمَةَ وَعِنْدَ مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ قَنَتَ عُمَرُ وَكَذَا عَلِيٌّ فِي مُحَارَبَةِ مُعَاوِيَةَ، وَمُعَاوِيَةُ فِي مُحَارَبَتِهِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُنْشِئُ لَنَا أَنَّ الْقُنُوتَ لِلنَّازِلَةِ مُسْتَمِرٌّ لَمْ يُنْسَخْ. وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ حَدِيثَ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَنَسٍ «مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» أَيْ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ يُفِيدُ تَقَرُّرَهُ لِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَبَاقِي أَخْبَارِ الصَّحَابَةِ لَا يُعَارِضُهُ، بَلْ إنَّمَا تُفِيدُ نَفْيَ سُنِّيَّتِهِ رَاتِبًا فِي الْفَجْرِ سِوَى حَدِيثِ أَبِي حَمْزَةَ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجِبُ كَوْنُ بَقَاءِ الْقُنُوتِ فِي النَّوَازِلِ مُجْتَهَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قولهِ أَنْ لَا قُنُوتَ فِي نَازِلَةٍ بَعْدَ هَذِهِ، بَلْ مُجَرَّدُ الْعَدَمِ بَعْدَهَا فَيَتَّجِهُ الِاجْتِهَادُ بِأَنْ يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ وُقُوعِ نَازِلَةٍ بَعْدَهَا يَسْتَدْعِي الْقُنُوتَ فَتَكُونُ شَرْعِيَّتُهُ مُسْتَمِرَّةً، وَهُوَ مَحْمَلُ قُنُوتِ مَنْ قَنَتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَنْ يُظَنَّ رَفْعُ الشَّرْعِيَّةِ نَظَرًا إلَى سَبَبِ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قوله تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} تَرَكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (قولهُ يُتَابِعُهُ) كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ وَسُجُودِ السَّهْوِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ يُتَابِعُهُ كَذَا هَذَا قُلْنَا الْمُتَابَعَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْفَصْلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ إمَّا مَقْطُوعٌ بِنَسْخِهِ أَوْ بِعَدَمِ كَوْنِهِ سُنَّةً مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّ الَّذِي كَانَ فِي الْفَجْرِ إنَّمَا كَانَ قُنُوتَ نَازِلَةٍ وَانْقَطَعَ بِزَوَالِهَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُنَّةً رَاتِبَةً ظَاهِرَةً الظُّهُورَ الْمَذْكُورَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْجَهْرِ أَوْ السُّكُوتِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ إلَى أَنْ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ، وَلَنُقِلَ نَقْلَ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ لَهُ وَلِلنَّسْخِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي النَّسْخِ لِلْعِلْمِ بِرَفْعِ حُكْمِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قولهُ: (لِأَنَّ السَّاكِتَ شَرِيكُ الدَّاعِي) مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ بِأَنَّ الْجَالِسَ أَيْضًا سَاكِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ مُشَارَكَتِهِ الدَّاعِيَ بِحَالِ مُوَافَقَتِهِ فِي خُصُوصِ هَيْئَةِ الدَّاعِي، لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُشَارِكًا لَهُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهُ لِأَنَّهَا مِنْ هَيْئَةِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يُلْغَى ذَلِكَ وَيُقَالُ مُجَرَّدُ الْوُقُوفِ خَلْفَ الدَّاعِي الْوَاقِفِ سَاكِتًا يُعَدُّ شَرِكَةً لَهُ فِي ذَلِكَ عُرْفًا رَفَعَ يَدَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ لَا وَهُوَ حَقٌّ.
قولهُ: (وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ) الْوُجُوبُ الْمُتَابَعَةُ فِي غَيْرِ الْقُنُوتِ وَشَرِكَتُهُ عُرْفًا لَا تُوجِبُ شَرِكَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَانِتًا فِي الْفَجْرِ:
فَرْعٌ:
الْمَسْبُوقُ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الثَّالِثَةِ لَا يَقْنُتُ فِيمَا يَقْضِي.

متن الهداية:
وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّفْعَوِيَّةِ وَعَلَى الْمُتَابَعَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ وَإِذَا عَلِمَ الْمُقْتَدِي مِنْهُ مَا يَزْعُمُ بِهِ فَسَادَ صَلَاتِهِ كَالْفَصْدِ وَغَيْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَالْمُخْتَارُ فِي الْقُنُوتِ الْإِخْفَاءُ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّفْعَوِيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا عُرِفَ مِنْ وُجُوبِ حَذْفِ يَاءِ النَّسَبِ إذَا نُسِبَ إلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَوَضْعِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ مَكَانَهَا حَتَّى تَتَّحِدَ الصُّورَةُ قَبْلَ النِّسْبَةِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهَا وَالتَّمْيِيزُ حِينَئِذٍ مِنْ خَارِجٍ. ثُمَّ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي أَنَّهُ يُتَابِعُهُ أَوْ لَا فَيَقِفُ سَاكِتًا أَوْ يَقْعُدُ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى يُسَلِّمَ مَعَهُ أَوْ يُسَلِّمَ قَبْلَهُ وَلَا يَنْتَظِرُ فِي السَّلَامِ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُقْتَدِيًا إذْ ذَاكَ وَهُوَ فَرْعُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ، ثُمَّ إطْلَاقُ الْقَانِتِ يَشْمَلُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ هُوَ بِدْعَةٌ اتِّفَاقٌ عَلَى الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ مَسْنُونٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ مَنْعِ الْمُتَابَعَةِ فِي قُنُوتٍ بِدْعِيٍّ وَتَجْوِيزِهَا فِي مَسْنُونٍ لِجَوَازِ أَنْ تَمْتَنِعَ فِيهِمَا، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّ الْمَانِعَ إنَّمَا عُلِّلَ بِنَسْخِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَنْسُوخٍ لَجَازَتْ، وَإِلَّا لَقَالَ مَثَلًا لَا يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَا يُتَابِعُ فِيهِ الْمَأْمُومُ إمَامَهُ كَالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْمِيعِ، فَلَمَّا لَمْ يُعَلَّلْ قَطُّ إلَّا بِذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّهُ عِلَّةٌ مُسَاوِيَةٌ عِنْدَهُ ثُمَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ خِلَافٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ اقْتِدَاءُ الْحَنَفِيِّ بِشَافِعِيٍّ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ النَّسَفِيُّ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ الشُّعَاعَ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ مُفْسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ حَيْثُ أُقِيمَ بِالْيَدَيْنِ، وَالْمُصَنِّفُ أَخَذَ الْجَوَازَ قَبْلَهُمْ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهَا تُفِيدُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَبَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ الْقُنُوتِ فَتُعَارِضُ تِلْكَ وَتُقَدَّمُ هَذِهِ لِشُذُوذِ تِلْكَ صَرَّحَ بِشُذُوذِهَا فِي النِّهَايَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَيْضًا فَالْفَسَادُ عِنْدَ الرُّكُوعِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ مِنْ الِابْتِدَاءِ، مَعَ أَنَّ عُرُوضَ الْبُطْلَانِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ جَائِزُ التَّرْكِ عِنْدَهُمْ. وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ الْمُخْتَارُ فِيهِ مَا لَوْ رَآهُ شَخْصٌ مِنْ بَعِيدٍ ظَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ جَوَازَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَقَاضِي خَانْ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَصِّبًا وَلَا شَاكًّا فِي إيمَانِهِ، وَيُحْتَاطُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ كَأَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْخَارِجِ النَّجِسِ وَيَغْسِلَ ثَوْبَهُ مِنْ الْمَنِيِّ وَيَمْسَحَ رُبْعَ رَأْسِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ وَلَا يَقْطَعُ الْوِتْرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعَصُّبَهُ إنَّمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ، وَلَا مُسْلِمَ يَشُكُّ فِي إيمَانِهِ، وَقول إنْ شَاءَ اللَّهُ يَقولونَهَا لِلتَّبَرُّكِ لَا لِلشَّرْطِ أَوْ لَهُ بِاعْتِبَارِ إيمَانِ الْمُوَافَاةِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِيَقِينٍ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَالْمَنْعُ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ، وَلَوْ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ يُصَلِّي: يَعْنِي بَعْدَمَا شَاهَدَ تِلْكَ الْأُمُورَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَاَلَّذِي قَبْلَ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ إذَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَطْ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ سَوَاءٌ عَلِمَ فِي خُصُوصِ مَا يَقْتَدِي بِهِ فِيهِ أَوْ لَا. هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِمَامِ بِأَنْ شَاهَدَهُ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ امْرَأَةً وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَصَلَّى وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَمُخْتَارُ الْهِنْدُوَانِيُّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بِنَاءَ عَلَى الْمَعْدُومِ. قُلْنَا الْمُقْتَدِي يَرَى جَوَازَهَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ رَأْيُ نَفْسِهِ لَا غَيْرِهِ، وَقول أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ إنَّ اقْتِدَاءَ الْحَنَفِيِّ بِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ يَجُوزُ وَيُصَلِّي مَعَهُ بَقِيَّتَهُ لِأَنَّ إمَامَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ بِسَلَامِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ قَدْ رَعَفَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ وَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ مَا يَزْعُمُ بِهِ فَسَادَ صَلَاتِهِ بَعْدَ كَوْنِ الْفَصْلِ مُجْتَهِدًا فِيهِ. وَقِيلَ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَامَ الْمُقْتَدِي فَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا، وَكَانَ شَيْخُنَا سِرَاجُ الدِّينِ يَعْتَقِدُ قول الرَّازِيّ، وَأَنْكَرَ مَرَّةً أَنْ يَكُونَ فَسَادُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ مَرْوِيًّا عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ حَتَّى ذَكَّرْته بِمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ فِي الَّذِينَ تَحَرَّوْا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَصَلَّى كُلٌّ إلَى جِهَةٍ مُقْتَدِينَ بِأَحَدِهِمْ، فَإِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِحَالِ إمَامِهِ فَسَدَتْ لِاعْتِقَادِ إمَامِهِ عَلَى الْخَطَإِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْإِرْشَادِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فِي الْوِتْرِ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ. يُخَالِفُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْمَشَايِخِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِشَافِعِيٍّ فِي الْوِتْرِ أَنْ لَا يَفْصِلَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَدَمِ فَصْلِهِ.
وَفِي الْفَتَاوَى: اقْتِدَاءُ حَنَفِيٍّ فِي الْوِتْرِ بِمَنْ يَرَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: يَصِحُّ لِأَنَّ كُلًّا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْوِتْرِ فَلَمْ تَخْتَلِفْ نِيَّتُهُمَا، فَأُهْدِرَ اخْتِلَافُ الِاعْتِقَادِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ وَاعْتُبِرَ مُجَرَّدُ اتِّحَادِ النِّيَّةِ، لَكِنْ قَدْ يَسْتَشْكِلُ إطْلَاقُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ عَدَمَ جَوَازِ صَلَاتِهِ مَنْ صَلَّى الْخَمْسَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْرِفْ النَّافِلَةَ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ مِنْهَا فَرْضًا وَمِنْهَا نَفْلًا فَأَفَادَ أَنَّ مُجَرَّدَ مَعْرِفَةِ اسْمِ الصَّلَاةِ وَنِيَّتِهَا لَا يُجَوِّزُهَا فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مِنْ الْخَمْسِ فَرْضًا وَنَفْلًا. وَهَذَا فَرْعُ تَعَيُّنِهَا عِنْدَهُ بِأَسْمَائِهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى آخِرِهِ، وَلِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهَا أَوَّلًا، فَإِنَّهُ إذَا سَمَّاهَا بِالظُّهْرِ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّ الظُّهْرَ نَفْلٌ فَهُوَ بِنِيَّةِ الظُّهْرِ نَاوٍ نَفْلًا مَخْصُوصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وِتْرُ الْحَنَفِيِّ اقْتِدَاءً بِوِتْرٍ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ فِي الْوِتْرِ لِأَنَّهُ بِنِيَّتِهِ إيَّاهُ إنَّمَا نَوَى النَّفَلَ الَّذِي هُوَ الْوِتْرُ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَحِينَئِذٍ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى الْمَعْدُومِ فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي. نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ عِنْدَ النِّيَّةِ صِفَتُهُ مِنْ السُّنِّيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا بَلْ مُجَرَّدُ الْوِتْرِ يَنْتَفِي الْمَانِعُ فَيَجُوزُ لَكِنْ إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ التَّجْنِيسِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ نَفْلِيَّتُهُ وَفَرْضِيَّتُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُتَقَرِّرُ فِي اعْتِقَادِ نَفْلِيَّتِهِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ لِلْمُتَأَمِّلِ وَأَمَّا الثَّانِي فَعَنْ مُحَمَّدٍ يَقْنُتُ الْإِمَامُ وَيَسْكُتُ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا كَقول بَعْضِهِمْ فِي الْقُنُوتِ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْمُقْتَدِي كَالْقِرَاءَةِ وَيَجْهَرُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْنُتُ كَالْإِمَامِ، ثُمَّ هَلْ يَجْهَرُ بِهِ الْإِمَامُ؟ اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ وَيُتَابِعُونَهُ إلَى بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ، وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ: يَعْنِي اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يُتَابِعُونَهُ؟ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي قول مُحَمَّدٍ لَا وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ شَاءُوا سَكَتُوا، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: عِنْدِي يُخْفِي الْإِمَامُ، وَكَذَا الْمُقْتَدِي لِأَنَّهُ ذِكْرٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ. وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهَلْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قِيلَ لَا وَقِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ، وَنَحْنُ قَدْ أَوْعَدْنَاك مِنْ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ ثُبُوتَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْنِي قولهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ هَذَا الْقول. وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَفِي الْبَدَائِعِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ لِلْقَاضِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ كَالْقِرَاءَةِ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ اخْتِيَارُ مَنْ اخْتَارَ الْإِخْفَاءَ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِابْنِ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِخْفَاءَ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ فِي مَسْجِدِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ عَلِمَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ فِي الْقُنُوتِ.
فَرْعٌ:
أَوْتَرَ قَبْلَ النَّوْمِ ثُمَّ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى لَا يُوتِرُ ثَانِيًا لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» وَلَزِمَهُ تَرْكُ الْمُسْتَحَبِّ الْمُفَادِ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ شَفْعُ الْأَوَّلِ لِامْتِنَاعِ التَّنَفُّلِ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ.